الأحد، 17 مايو 2015

قصة قصيرة القرار الأخير بقلم رشيد شرشاف

قصة قصيرة القرار الأخير بقلم رشيد شرشاف

خط فاصل

المشهد الأول

كنا رجالا ثلاثة، لا نفترق إلا لماما . تجمعنا سلطتا الفقر و النثر، في كوخ يوجد على أحد أطراف البلدة.
لا يهم تحديد الجهة بالضبط،أهي الجهة الشرقية؟أم الغربية؟أم....؟!
المهم أننا كنا نسكن خارج البلدة:يعني كنا مهمشين فكرا وأحلاما وآمالا!
لم يكن لدينا الحق أن نطالب بأي حق،أو أن نقول ها نحن اسمعوا منا نبأ الجوع و التهميش ،
إننا عرفناهما و خبرناهما فأصبحنا علماأخبراأ،نزاول عملنا ليل نهار على الرغم منا ونستدر الألم جهارا.

كنا نجتمع أوقاتا عديدة،نستل الأقلام من جيوبنا الفارغة إلا منها ، ونبسط الأوراق البيضاء على الأرض،
ونتبارى أينا أقدر تعبيرا على تصوير شظف العيش و البؤس ،والبيوت القاتمة اللون،
واللحوم العارية المقشعرة من شدة البرد،الملتحفة بأنجم الليل ، المفترشة الأرض المتربة.
بصراحة كنا نفوز دائما ولا يكون فينا خاسر ،كيف لا ومصير أبطالنا مرآة لليلنا في كل آن؟

المشهد الثاني

لكن دوام الحال من المحال،و إذا شاء الله أن يرزق العباد، يرزقهم من حيث لا يعلمون.
تغيرت الأمور و أصبحنا رجالا ثلاثة لا نجتمع إلا لماما، تربطنا خيوط أوهى من خيوط العنكبوت.
أولنا استلم وظيفة مرموقة بإحدى الشركات الكبرى، و ثانينا هاجر عاملا إلى الخارج،
و ثالثنا تزوج من عجوز غنية ،تمتص منه رحيق الشباب ، و يستدر منها الأموال الطائلة.
نسينا في غمرة الأحداث ماضينا أو تناسيناه. لم نعد نذكر الأيام الباردة.
امتلأت الجيوب بالأموال، وصرنا رجالا ثلاثة، تلهينا الأيام كما تشاء.
عرفنا حلاوة العيش و خبرناها،فأصبحنا متوردي الخدود.
مستدفئين آناء الليل.منتعشين في الصباح..نسينا استلال القلم،و أصبحت عقولنا بيضاء كأوراقنا المهجورة .

المشهد الثالث

في أحد الأيام شاءت الأقدار و الصدف أن نلتقي.كلنا مرآة للآخر.عيوننا ميتة كزجاج أخرس.
قلت:المال يطفئ الحياة بالعيون
قالا بصوت واحد:نعم والقلب إن تشأ تعتريه شجون
قلت: ليس الأمر بيدنا كنا أناسا محرومين
قالا: كذلك نقول ولسنا بلائمين
قلت: يدي ترتعش لا أعرف لها سكونا
قالا: من البرد؟أم من رنين المال؟ أم من الحنين؟
قلت: لا أعرف..حقا لا أعرف
وٱفترقنا على أمل اللقاء.

المشهد الرابع

في ليلة مقمرة،ساقتني قدماي إلى الكوخ القديم.
توقفت عند الباب و الدموع تنهمر من عيني.كل شيء باق كما كان.
لون الجدران القاتم. الأرض المتربة. الرطوبة العفنة.دخلت.وجدت ثلاثتنا بالداخل.

قصة قصيرة أنين الأرض بقلم رشيد شرشاف

قصة قصيرة أنين الأرض بقلم رشيد شرشاف
الإهداء:إلى أولائك الذين سقوا الأرض بدمائهم كي يطرح حرثها يوما حقا مشروعا و سلاما
وحيدا كنت في الغرفة أو مع بعض من أقربائك،ستجلس في أحد المساءات الباردة أمام شاشة التلفزة ،تستمع لنشرة الأخبار،وأنت ترتعد من البرد أو من هول الأحداث.ستستمع لأخبار حروب تقع في أماكن مختلفة من العالم،وستئن و تتألم لمجرد معرفتك بأن هناك ضحايا أبرياء يموتون من دون أي سبب ،سوى لأن القدر جعلهم محاصرين في منطقة الصراع.
ستتناهى إلى سمعك من حين إلى آخر،أخبار أناس يشتركون معك في الدين و اللغة و التاريخ،يتعذبون و يتألمون،و لكن ما من مغيث.ستتوه و تحتار و يحاصرك ألف سؤال و سؤال،لينقذك في الأخير صوت المذيع المنبعث من التلفزة،وهو يقول في غموض:وقد أظهرت آخر الأنباء أن الوضع ما زال كما هو عليه .ستتساءل فيما بينك وبين نفسك عن هذا الوضع الذي يتحدثون عنه ،وسيجيبك المذيع بابتسامة كبيرة:و لقد جاءنا خبر مستعجل اللحظة من مراسلنا الصحفي يقول بأنه قد سُمعت طلقات نارية في البلد المسلم المغتصب الذي يوجد به ،أحدثت ضجة بين سكانه،وجعلت عويل نسائه يختلط بعويل سيارات الإسعاف التي غمرته من كل جانب ،وهذه صور من منطقة الأحداث.
وتظهر على الشاشة صور غريبة تعجز لغة الكلام عن التعبير عنها ،تخط حكاية حبرها دموع شيوخ ويتامى وثكالى إنفجرت لتبحث لأحداثها عن مستقر .تتسرب إلى قلبك العطوف فتود لو تنفجر بالبكاء ،أو تبتلعك الأرض إلى غير رجعة،لكنك تتمالك نفسك و تصيح في ألم حقيقي:أين إتحادكم يا مسلمين ؟أين عزتكم يا عرب؟أينكم يا من بيدهم الأمر؟فلا تجد من مجيب!
تضيق بمن حولك وتضيق الغرفة بك، إذ تجثم مشاكل قومك و أمتك على صدرك ،فتذهب إلى الخارج متسكعا تبحث لهم عن حل.
تنتقل من شارع إلى شارع و تتوه بين الدروب ،وفي الأخير تصل إلى مقهى تجلس فيه.تنتظر إبتسامة النادل..وحين يحضر ويسألك عن طلبك تقول له راجيا:أريد لقومي عزة و سلاما.فينظر إليك باستغراب ويعيد طرح سؤاله عليك،لكنك تظل على نفس قولك،فيطردك من المقهى وهو يضرب كفا على كف ويغمغم:ربنا إحفظنا وذرياتنا من هوس المجانين،ثم ينصرف إلى تلبية باقي الطلبات.
وتظل أنت وحدك منبوذا في الشارع لا حول لك ولا قوة،تنتظر من يحقق لك مطلبك،ويجيبك عن تساؤلاتك ،فلا تسمع غير صوت الريح،فتتحرك من مكانك إلى جهة لا تعلمها.تضع كفيك في جيبي سروالك،وتسير بخطى سريعة كي تدفئ جسمك،وعندما تصل إلى مكان عاج بالناس،وتراهم يسيرون في كل اتجاه،تتوقف أنت،وتستجمع قواك،وتصيح بأعلى صوتك:يا قوم لم هذا الإختلاف في المسير..هيا نتخذ طريقا واحدا نسلكه يكون فيه اتحادنا و قوتنا.فينفجر الجميع بالضحك ويتابعون مسيرهم،ولا يبقى منهم غير شخص واحد يأخذك جانبا و يقول لك :يا بني كيف نسلك طريقا واحدا ولكلٍ منا طريقه؟تصمت أنت من هول المفاجأة كأنك لم تتوقع مثل هذا الجواب.
وتغيب في بحر الذكريات فتتداعى أمامك أيام مجد قومك الغابرة،وأحلام ماضيها في أن تكون نبراسا منيرا لباقي الأمم ،وتستفيق فجأة على إرتطام كأس فارغة أمام قدميك ،فتجد الرجل قد إنصرف،وأمام عينيك مباشرة حانة عاجة بالناس ،منها إنطلق الكأس .لا تسمع منهم تأسفا ولا إعتذرا..
ينتتابك غضب شديد ،لكنك ستكتمه في صدرك،وتحاول أن تبتعد كثيرا عن هذا المكان،وعن أي مكان قبل أن تصاب بالجنون والغثيان،فتستسلم أنت للهزيمة ويستسلم الآخرون،ولا تبقى غير الأرض ترى حال بنيها وتتألم،وتبكي على مجدهم الضائع

قصة قصيرة رجل بلا قيد بقلم رشيد شرشاف

قصة قصيرة رجل بلا قيد بقلم رشيد شرشاف
ذات ليلة باردة والناس نيام،و النوم مفارق عيني،و لا أحد في المنزل غيري،و السكون يلف المكان،والشوارع خالية من الناس،والسماء ملبدة بالغيوم،والقمر يطل في استحياء ـ مرة بعد مرة ـ من بين السحب ،و الأرض تدور دورتها جهة المشرق ،والفجر قريب،والشمس لا حظَّ لها في الظهور هذا اليوم،و أنا جالس على كرسي قرب المدفأة في يدي كتاب،و أنا أنظر في شرود إلى السطور المتراصة فوق بعضها البعض ،المكونة من كلمات صغيرة كالنمل،وأنا منقبض الصدر مشغول البال،اشتهـــيت أن أخرج إلى الشارع و أنا مرتدٍ قميصا خفيفا و سروالا قصيرا،و أصرخ بأعلى صوتي و أجري و أضحك،وأكسر مصابيح الإنارة ،و ألعن الناس كمجنون فقد عقله،تماما مثلما كنت أفعل وأنا طفل صغير،فتشدني أمي من أذني بشدة ـ دائما تشدني من نفس الأذن ـ حتى أصبحت أظن أن لي أذنا أطول من أخرى ،و تقول لي:
ـ هذا عمل شائن لا يليق بالتلميذ المهذب
و أصبحت مهذبا محروما من عنف الطفولة و حماقاتها
ـ الطفل المهذب لا يتصرف بحمق
أرتدي الملابس و أخرج تاركا مصابيح المنزل منارة و الباب مفتوحا
ـ الطفل المهذب يقفل الباب عند الخروج كي لا يسرق بيته لص
أنزل السلالم.تخترق جمجمتي ذكريات الشباب.
ـ أنت رجل طيب ،و مهذب، ولطيف ،و فريد، ومتميز، و تقدر المسؤولية، و تعاشر الناس بالمعروف، و تواجه الحياة بجلَد، لكنك لا تثير ا هتمامي
لسلالم مظلمة.أنزل ببطء.ببطء أكثر من اللازم
ـ أنت لا تساير العصر
أغني بصوت دافئ أعهده في
ـ أريد رجلا متحررا
أحاول أن أشوه صوتي.أفلح فتخرج الألحان مشوهة
ـ يجب أن تكسر القيود
أسمع حركة داخل بيت الجيران
ـ عن أي قيود تتحدثين؟
تزداد الجلبة داخل بيت الجيران،فأرفع صوتي بالغناء
ـ النظام، والحياة الهادئة ،والعيش بالمعروف، كل هذه قيود
يُفتح الباب.تطل جارتي في انزعاج فأختبئ.تلعن المزعج وتتوعده بالإتصال بالشرطة
ـ ما تريدينه هو الفساد بعينه
تصفق الباب،فأظهر من جديد و أنا أكتم ضحكة شريرة.أصعد وأدق بابها بعنف،ثم أفر هاربا وسط الشتائم والتهديدات.يتلقفني الشارع الخالي.أسير في خيلاء،وأحرك يدي في مرح.
ـ أنت وقح ولا تعرف كيف تعامل النساء.
أرى على مقربة مني أمام ورشة بناء كومة حجر.أجري نحوها كطفل صغير، وأملأ جيوبي بها.
ـ وأنت امرأة حمقاء مستهترة.
أرفع رأسي إلى السماء كمؤمن يناجي الله تعالى قبل طلوع الفجر.تنزل قطرة مطر على عيني ،وتنزل عبر الخد إلى الذقن.أشعر بالوحدة.أشعر بالغربة.أشعر بالضياع،ويلف جسمي برد قارص.أخفض رأسي قليلا،فتجتدب بصري أضواء أعمدة النور.أبتسم وآخذ من جيبي حجرا ،وأرميه صوب أحد المصابيح ،فينكسر وتتسع ابتسامتي.كم أنا بارع في التصويب!وأصوب نحو مصباح آخر فينكسر.حقا أنا بارع ،وتتالى الإنكسارات،ويعم الظلام شيئا فشيئا،فتلف النشوة جسدي.أصيح وأصرخ ملئ صوتي:
ـ أماه لماذا أنجبتني؟!
أسمع جلبة في بعض البيوت.لا أهرب.تضاء بعض مصابيح الغرف.لا أهرب.تطل بعض الوجوه.لا أهرب.أنظر إلى الكل في احتقار،وأرجمهم بما تبقى لي من حجر.يثورون ضدي.
ـ أماه أنقذيني!
أهرب .ترعد السماء،وترميني بحبات المطر
ـ أماه...دثريني!
أرتجف كعصفور صغير سقط من عشه على أرض ندية.
ـ كم أنا خائف !
أختبئ في مكان ما.
ـ بل مذعور
ملابسي مبللة عن آخرها.
ـ بل مرعوب
أظل مختبئا حتى تخمد ثورة السكان.يلفني السكون.أهدأ.ينتظم تنفسي بالتدريج.تنبعث من عيني شرارة،و يحرق القلبُ صدري كجدوة نار،و تنهمر الدموع ساخنة من عيني فأبكي بحرقة.
ـ أماه لقد أصبحت طريدا،غريبا،منبوذا،فأين هي دعواتك لي بالفلاح؟
ينتفض جسدي فجأة وتتوقف دموعي.أشعر بالدوار و الحمى.أخلع قميصي المبلل بالعرق والمطر،وألفه حول رأسي لأتداوى بالذي هو الداء.أنظر حولي في شموخ كفارس عربي قديم،ثم أجري بين الأزقة بأقصى ما أستطيع.أقف.مازلت أحس بالدوار.تخترق أسماعي موسيقى وضحكات آتية من حانة قريبة عاجة بالناس،فيزداد إحساسي بالدوار.أراقب المكان في ٱندهاش.لم أر هذا المكان من قبل قط!ترى هل هو أحد بيوت ألف ليلة وليلة أم ماذا؟
أراقب في فضول.أشم رائحة الحرية التي حدثتني عنها يوما إحدى النساء.أبتسم في سخرية.يخرج ثلاثة سكارى.رجلان وامرأة .الملامح غير واضحة.يتمايلون في مشيتهم من شدة السكر.غير قادرين على المشي بشكل طبيعي.أفكر :
ـ ماذا يحدث لو رآني أحدهم؟حتما سيعتقد أنني متسول حقير.
أفكر بصوت مسموع:
ـ إنهم سكارى لا يفقهون الآن شيئا،ربما اعتبروني أميرا عربيا،أو حاكما هنديا،والدليل العمامة التي على رأسي:قميصي المبلل الذي أستخدمه في وظيفة طبية.أرتاح لهذا الرأي وينتابني شعور بالزهو .يودع الرجلان المرأة ويمران بمحاذاتي دون أن يشعرا بي،وتتخذ المرأة طريقا آخر وهي تلوح لهما مودعة وتضحك في خلاعة.أتبعها .لا تشعر بوجودي.أحاول أن أتبين ملامحها.أنكشف،وتشعر بوجودي.تتوقف،وتستدير نحوي.أصدم بمعرفتها،فيغلي الدم فورا في عروقي .
تخاطبني في حياء يخالطه سكر وثقل باللسان:
ـ هذا أنت؟ كيف حالك؟
ثم في ٱرتباك واضح:
ـ ما...ماذا تفعل هنا؟
أتجاهل سؤالها و أقترب منها أكثر.تظهر ملامحي الغاضبة جليا مع انبلاجة الفجر،فتقلق وترجع خطوة للوراء.تسألني في خوف:
ـ ماذا بك؟ما..ماذا حدث لك؟
ذاكرتي غائبة بين صفحات الماضي.لا أجيبها.أقترب.أمسك بيدها،وألطمها على وجهها.تنظر إلي في دهشة .فتلطم جدار ذاكرتي أقوالها القديمة.
ـ أنت لا تساير العصر
ألطمها مرة ثانية فتند عنها آهة مكتومة.
ـ أفكارك رجعية.
ألطمها مرة أخرى .تسقط على الأرض.
ـ النظام والحياة الهادئة والعيش بالمعروف كل هذه قيود.
أنقض عليها ككلب مسعور.تستنجد.
ـ أماه ..لست مذنبا ،هي السبب فيما يحدث.
ألكمها .تصرخ بقوة.ألكمها بقوة.
ـ أماه لقد ضعت.ينتبه رواد الحانة والسكان.ألكمها بقوة أكثر.تفقد الوعي.أتابع لكمها.ينقض علي الناس.
ـ أيها الأوغاد ،دعوني أمارس حريتي ولو مرة واحدة في حياتي.
ألكم الكل .يلكمونني من جميع الجهات.أصيح و أبكي .. يتابعون ضربي.أسقط .يكفون عن ضربي .فألعن كل الناس....

قصة قصيرة:لعنة زبيدة الشوافة بقلم:رشيد شرشاف

قصة قصيرة:لعنة زبيدة الشوافة بقلم:رشيد شرشاف
استولت الشمس على مكان شاسع وسط السماء .كانت فيما يبدو قريبة جدا من سطح الأرض ولعل هذا ما جعل جدتي تؤكد ـ بالدليل القاطع ـ دنو الساعة ،خاصة بعد امتناعي عن السخرة لها في ذلك الصباح، وهروبي خارج المنزل للعب مع أصدقائي ،دون الإلتفات إلى تهديدا تها بسجني عند عودتي ، ومنعي من دريهماتها التي تستغلها أيما ٱستغلال في لوي ذراعي،وتطويعي وفق إرادتها الصلبة .ورغم التهديدات والإغراأت فإنني تمردت عليها هذا الصباح ربما من أجل التمرد من حيث هو تمرد فقط ،أو لكي أثبت ذاتي و شخصيتي وقوتي التي أستمدها من حكاياتها الغريبة و العجيبة التي تحكيها لي كل ليلة ، أو ربما لإغراآت الأصدقاء بالخروج واللعب معهم ،والقيام بالمغامرات والإكتشافات الجديدة .
 كان برنامجنا في ذلك اليوم التوجه إلى دار زبيدة الشوافة *1 ليست الدار دارها بالتحديد وإنما كانت قد ٱكترتها لبضع سنين من صاحبها بأجر يقال أنه يصل إلى الضعف ،ومنذ سنتين قبضت عليها الشرطة بتهمة قتل زوجين لجآ إليها من أجل مساعدتهما على الإنجاب ،أو بتهمة مسخ زوجين إلى قردين ،لست أدري..هناك تضارب في الأقوال ولعل القول الثاني هو الصحيح *2 .
كانت مهمتنا تتلخص في الجلوس واحدا واحدا على عتبة باب دارها وقتا كافيا يثبت شجاعتنا وقوتنا على ٱرتياد المخاطر،لكننا وقعنا في مشكلة عويصة وهي من الذي سيتقدم أولا ويخوض التجربة ،فقد كان القرار صعبا،فأن تتحول إلى قرد أو أي شيء آخر أمر ليس بالسهل،خاصة وأن الكل يجزم ـ كبيرا وصغيراـ بأن لعنة زبيدة الشوافة تطال كل من يقترب من هاته الدار،والدليل على ذلك بقاؤها خالية كل هذا الوقت دون أن يسكنها أحد،فكيف تحضر الشجاعة والقوة والأمر خطير بهذا الشكل؟ لقد كانت حكايات جدتي هينة وأقل خطورة بالمقارنة مع ما يحدث الآن .لقد أصبحت الآن طرفا في الأحداث وهذا شيء جديد بالنسبة لي .
من قبل كنت أتصور أنني بطل لا يقهر .أقهر التنين العملاق ،وأخرج الغول من داره،وأحمل السيف البتار ،وأقضي على المتمردين ،ولعل هذا ما جعل الأصدقاء ينصبونني زعيما عليهم ،مستمدين الأمان مني ،ومتشبثين بأهداب مملكتي الوهمية ،مصدقين كل ما أحكيه لهم عن بطولاتي وٱنتصاراتي الخيالية التي كنت أستمدها من حكايا جدتي،ولعل هذا ما زاد من قلقي وخوفي على مكانتي بينهم ،ويبدو أنهم شعرو بما يدور في خلدي ،فحولو أبصارهم نحوي بترقب وفضول ،منتظرين خطوة شجاعة مني أثبث بها قوتي الخارقة.
تقدمت خطوة و تقهقرت ،و تقدمت و تقهقرت ،وصوت بداخلي يهمس لي أن زعامتي أصبحت بين كفي عفريت .لا حظت نظرات السخرية التي بدأت تطفو على الوجوه ،و استطعت أن ألمح بوادر التمرد الخفية التي ٱعترت بعض الأنفس التي تنتظر كل فرصة للإنقضاض علي وسحب بساط الزعامة مني.لاحظت ذلك كله و قررت أن أتصرف بأي شكل كان ، وحاولت قبل أي تصرف أن أرد ثقتهم بي و أمنع كل شك بمقدرتي ،و حاولت لأجل هذا أن أستعين بحيل كل الأبطال والفرسان الذين حكت لي عنهم جدتي .نطت في رأسي فكرة ،فالتفت إليهم ،وثبت نظري عليهم ثم قلت ببطء :
ـ أيها الأصدقاء ..إن ما نقوم به اليوم أمر خطير جدا ،يستدعي تفكيرا عميقا قبل الإقدام عليه ،فالأبطال الشجعان يغلبون الحكمة على القوة ،والخطوة المدروسة عن المتهورة ،فصبرا قليلا..ثم ببطء أكثر:
ـ أصدقائي لا تخشو شيئا ،وضعوا ثقتكم بي ،إن لعنة زبيدة الشوافة ستنتهي اليوم على يدي ،فصبرا ريثما آتيكم بسلاحي الفتاك من غرفتي السرية المتواجدة بقبو بيتي .
وتفرقنا وأنا كلي حيرة وقلق ،لقد ٱستطعت أن أأجل لحظة المجابهة واختلقت كذبة وجود سلاح بقبو بيتنا ـ رغم عدم وجود القبو بالمرةـ فإلى متى هذا التأجيل؟.
عدت إلى المنزل شاردا ،ناسيا توعدات جدتي بالإنتقام التي ماإن رأتني حتى حبت من غرفتها إلى البهو على أربع كالطفل الصغير وصاحت بي:
ـ جئت يا متعوس .تتركني بدون معين وتهرب.الله يمسخك.
صدمت هذه الكلمة الأخيرة طبلة أذني بشدة ،وشوشت علي تفكيري،فاعتبرتها نذير شؤم و نبوءة محققة من جدتي *3.
تابعتها بشرود وهي تعود إلى مكانها حبوا ،ولم أحاول إسترضاءها كمثل كل مرة ،واخترت مكانا قصيا من الغرفة،وجلست كالصنم بدون حراك.خلايا تفكيري خاملة بل مشلولة كليا .لا تتفاعل مع بعضها البعض ولا تعمل،وفقدي ثقة الأصدقاء بي وولائهم لي أصبح وشيكا.وحدها جدتي يمكنها أن تساعدني لتخرجني من هاته الورطة ،لكن الثمن سيكون غاليا .تأنيب وضرب واستغلال وكرامة ممرغة في الوحل.هذا شيء كثير لا يرضاه أحد لنفسه.تنهدت بحسرة وأخذ دبيب الكره لزبيدة الشوافة يسري في جسدي كالسم،فشعرت بالإعياء والتعب ،وانقبض صدري، وبدأت أنظر حولي بحزن،وأثناء مرور بصري على أثاث الغرفة ،توقف هنيهة على قبعتي ،وفجأة وقفت كمن لدغته عقرب ،وصحت :وجدتها..وجدتها.وأخذت أنط كال...كالقرد
عادت جدتي للحبو من جديد وهي تصيح مستنكرة:
ـ الله يمسخك..الله يمسخك.ألا تعرف الهدوء أبدا؟!
لكنني تجاهلتها وحملت قبعتي وخرجت مسرعا.
مازالت السماء صافية ،والشمس تحركت بضع سنتميترات عن مكانها بنظرة القرون الوسطى ،والأرض دارت قليلا بنظرة القرون الأخيرة،والحال مازال كما هو عليه بنظرتي،والأصدقاء ٱجتمعوا قبلي دون علمي،وأنا أسير نحوهم بثقة وفي يدي قبعتي،والمغامرة لم تنته بعد ،ولحظة المجابهة أصبحت وشيكة ،والصمت مخيم على الكل ،والعيون المتسائلة مصوبة نحوي.حييتهم بإيماءة من رأسي،وقلت بمكر وأنا أرفع قبعتي عاليا:
ـ هل تعرفون ما هذه؟
أجابوا ببلاهة:
ـ نعم إنها قبعة !
قلت:
ـ صدقتم..لكن مالاتعرفونه هو أن هذه القبعة سحرية وتمنع السوء عن مرتديها .
ثم خفضت صوتي قليلا كأنني أخبرهم بسر عظيم ،واستطردت:
ـ بصراحة ما من مغامرة خضتها من قبل إلا وكنت مرتديا قبعتي السحرية ،فهي من أثمن كنوزي.
ثم رميتها نحوهم فأخذوا يتفحصونها بذهول ،ويمررونها بينهم كشيء مقدس ،فقلت لهم بلطف أفتقده فيَّ :
يمكنكم تجربتها وأنتم تجلسون على عتبة بيت زبيدة الشوافة.
توقفوا عن العبث بها ،ونظروا إلى المنزل بحذر فقلت مشجعا:
ـ هيا لا تخافوا ،كونوا شجعانا مثلي..إنني أحقق لكم فرصة فريدة ،و نادرة الحدوث.
مرّ الوقت بطيئا وهم مترددين ،سال خلاله عرق غزير مني.كنت كمن يتعلق بقشة وهم وسط بحر من الخوف،لكن أحدهم تهللت أساريره وقال:
ـ سأجربها أولا.
راقبناه بحذر وهو يرتديها،وتراجعنا إلى الخلف خطوة وهو يتقدم نحو العتبة،فشعرت بتأنيب الضمير وأنا أرى أحد أصدقائي يرمى إلى التهلكة ،وشعرت بوخز كدبيب النمل يملأ جسدي كله،فرأيته بعيني الواهم يمسخ قردا،وشعرت بقلبي يكاد يقفز من صدري ،فهممت أن أوقفه وأعترف لهم بكذبي،لكن الوقت فات وصديقي جلس على العتبة.نظر إلينا ضاحكا ثم صاح:
ـ أصدقائي لقد ذهبت لعنة زبيدة الشوافة إلى غير رجعة..
تهللت أسارير الكل ،فأخذوا يتسابقون لتجربة سحر القبعة ،فنظرت إليهم غير مصدق ،وأخذت أراقبهم وأفحص وجوههم كلما جلسوا على العتبة.

صدقت حينها قوة سلاحي السري ،وجربته على نفسي،ومنذ ذلك الوقت والأصدقاء يثقون بي وبكل ماأقوله..*4

*1ـ الشوافة تعني باللهجة المغربية المشعودة التي تقرأ الطالع وتفك العقد
*2ـ في حكاية أخرى يقال أن الزوج وحده مُسخ إلى قرد ،أما الزوجة فقد نجت وهي التي بلغت الشرطة.
*3ـ في الحقيقة لقد كنت شبه متأكد بل متيقن من هذه النبوؤة،فقد كنت كثير الحركة واللعب والنط داخل البيت ،فتجد جدتي في كل مرة تقول:إهدأ يا قرد!...كف عن النط كالقرد...يجب أن نضعك في قفص كي تهدأ.. إلخ
*4ـ لم تستمر هذه الكذبة طويلا،فقد ظهرت بعد سنوات قليلة ـ على وجه كل منا ـ عدة شعيرات ـ على الذقن والشفة العلياـ و في أماكن أخرى من أجسادناـ فاتهمت بالخيانة والتسبب في مسخهم إلى قِردة، رغم تنبيهي لهم بأن هذا ماهو إلا علامة من علامات البلوغ.