الجمعة، 22 مايو 2015

قصة قصيرة:سيد بدوي...بقلم رشيد شرشاف

قصة قصيرة:سيد بدوي...بقلم رشيد شرشاف
بقدم إلتوى كاحلها،سار "سيد بدوي" تحت الشمس المحرقة،خطواته مرتعشة ومتعبة،وعيناه شاردتان تنظران إلى اللاشيء في غير إكثرات.
مرت بالقرب منه سيارة فارهة ،كادت أن تدهسه،فٱنتفض في هلع وتوقف وهو ينظر في دهشة إلى السائق الذي تجاوزه كحشرة دون إهتمام،وٱنتبه إلى أنه واقف وسط الشارع،فعبر إلى الجهة الأخرى في سرعة وقد فارقه شروده،ثم حك مؤخرة رأسه في حيرة وواصل طريقه.قسمات وجهه جامدة لا تنبئ بالنار القائظة بداخله،وحركة العربات الكثيفة يصم زئيرها المزعج أذنيه.
رفع يده اليمنى فوق عينيه وشكل منها حاجزا يقيهما من أشعة الشمس،ثم أخذ ينظر إلى الشارع الطويل الممتد أمامه،وخيل إليه أن المسافة بين ورشة البناء التي كان يعمل بها إلى وقت قصير وبين بيته،قد أصبحت أطول مما كانت عليه،والشارع أصبح متصاعدا أكثر من ذي قبل وصعب المسير.
تنهد في إعياء وأخرج من جيبه منديلا رثا ،أخرقا،مختفي الألوان من كثرة إستخدامه،ومسح به العرق عن جبينه،ثم مرره على رأسه الأصلع بسرعة،وأعاده في حنق إل مكانه،ورفع يده مرة أخرى وهي فارغة إلى خده الأيسر،وأخذ يتحسس في غيظ آثار صفعة قوية،وجهت له هذا الصباح من طرف مقاول البناء مسعود البوهالي بسبب إسقاطه لأحد أكياس الإسمنت وتبعثر محتوياته أثناء إلتواء كاحله المباغث.
كانت شمس الظهيرة في أوج عطائها ،وكان مسعود ذو الأربعين ربيعا، قد أتى للتو لمراقبة أشغال البناء،لباسه فاخر كالعادة رغم عدم تناسق الألوان،وجهه حليق به بعض البتور القديمة العهد،شفتاه غليظتان كصوته الأجش،يعلوهما أنف ضخم ،وعينان حادتان كالصقر،ينبوع شباب متنقل،وقرارات صارمة لا ترحم.سقوط كيس الإسمنت أمام عينيه الثاقبتين ،جعله ينفذ الحكم فورا وبقسوة ودون رحمة خاصة أن سيد بدوي دافع عن نفسه ،ورد له الصفعة بأخرى أشد منها، لكن حرقة الإهانة ظلت تنهش قلب سيد خاصة أنها تمت أمام أصدقائه العمال،وأتبعت بطرده شر طردة ،وحرمانه من أجرته ،والتوعد بالإنتقام منه ،دون أن يجد الفرصة لكي يثأر لكرامته الممرغة في الوحل،ويقتص منه ليس بصفعه فقط بل وبٱفتراسه ونهش لحمه بمافضل له من أسنان من دون أي شفقة أو رحمة.
أبعد يده عن خده،ورفعها إلى الأعلى،وأخذ يلوح بها في حركات عنيفة و فارغة ،كأنه يحارب عدوا عتيا،لكنه وجد الناس ينظرون إليه في دهشة و فضول وربما في إزدراء،فتوقف عن حركاته الغريبة ،وتابع سيره في هدوء.
خطواته حائرة ومتعبة،ودقات قلبه تخفق بشدة،كأنها تدق ناقوس الخطر.إن توقفه عن العمل سيخلق له مشاكل عديدة،ستذهب عنه النوم لأيام طويلة ما لم يجد عملا آخر وفي أسرع وقت،فمدخراته القليلة من المال لن تعيل عائلته إلا أياما قليلة،وأصدقاءه الذين يمكن الإستدانة منهم كلهم فقراء مثله أو أكثر،ولن يستطيعوا مساعدته إلا بالنزر القليل من المال وهذا لن يحل المشكلة.
جال بنظره حوله، وظهرت على وجهه علامات الإستعطاف والتوسل ،وهو يراقب الناس الذين يمرون حوله دون أن يبالوا به أو يكثرتوا بنظراته المتتبعة،المتفحصة،كأنه يدعوهم لمساعدته وإخراجه من ورطته،ولما لم يجد منهم نظرة إهتمام ،حول نظره إلى الأرض ،وهو يتأسف على أيام شبابه الضائعة.
وقتها كان قويا ،صلب العود،يساعد الضعيف حتى وإن لم يكن يعرفه، وكان يستطيع أن يحمل كيسين من الإسمنت على ظهره بدل كيس واحد دون أن يتعب أو يسقطا منه،ولم يكن أحد يجرؤ على الإعتداء عليه أو يخطئ في حقه أو يسيء إليه ولو بكلمة واحدة،لكنه الآن أصبح عجوزا ،ولم تعد له نفس قوة شبابه،وأصبح عرضة للإهانة في كل وقت.
تنهد في إعياء ،،وأخذ ينظر إلى يديه الخشنتين،ويتأمل الخدوش الصغيرة ،الكثيرة ،المحفورة عليهما في إعتزاز يسيطر عليه الكثير من الحزن والألم،مستحضرا الأعمال الكثيرة التي قام بها من أيام شبابه إلى الآن،لقد قضى عمره كله بورش البناء ،يعمل بجد ونشاط وحب ،دون تعب أو تبرم، ولو بأجر زهيد ،المهم هو تجنب مد اليد للناس ،لم يكن يتصور أنه سيأتي يوم يصبح فيه عجوزا،فيَهِن جسده ويضعف،ويصبح غير قادر على الإتيان بالأعمال الشاقة جدا كما كان في شبابه.
بسط يديه أمام عينيه،ونقل نظره من الخدوش المحفورة عليهما ،الشاهدة على كفاحه الطويل إلى العروق البارزة ،ثم إلى اللحم الجاف العجوز،وزفر زفرة حارة تحمل كل الأسف القابع بداخله ،في شبابه لم يكونا بهذا الشكل بل كانتا ناعمتين ،غضتين ،قويتين،لا تخدش سطحهما الرقيق خدشة واحدة،لكن..الآن أصبح الوضع مختلفا وتغير كل شيء.
لقد بدأت تنكشف أمامه الآن حقيقة مؤلمة جدا.دوام الحال من المحال.ينبوع الشباب ينضب مع الوقت،وجسده النحيل قد بدأ في الأفول،لكن ما باليد حيلة،هذا حال كل من يعتمد في كسب رزقه على قوته الجسمانية فقط.بقليل من الذكاء والحظ،وكثير من القسوة والأنانية كان يمكن أن يكون مثل مسعود،هو يذكر أول مرة أتى فيها إلى الورشة،لقد إبتدأ من الصفر، لكنه في أقل من عشر سنوات تدرج في المناصب إلى أن وصل إلى أعلى المراتب ،ومع ذلك فعيشة البساطة والقناعة التي يعشقها سيد ،والبحث عن اللقمة الحلال ومعاملة الأصدقاء بالطيبة والتسامح،كانت تشعره بالسعادة والحبور ،فهل هو محق في تصرفه هذا؟
تنهد في حسرة ،و أخذ يحرك أصابع يده حركات مرتعشة ،غاضبة،تكشف عما يجول في خاطره من ثورة و تمرد،يجمعها بشدة لتكون لكمة ويبسطها على آخرها لتكون صفعة،راقه الأمر فأخذ يكرر ذلك مرات و مرات،وتملكته النشوة للحظات فبدأ يشعر بقوة خارقة تسري في جسده وتتحكم فيه ،إنفعالاته في أقصى توترها،والآلام التي كان يسببها له كاحله الملتوي تبددت،فأصبحت خطواته قوية،رشيقة ،سريعة كما في شبابه،وحرقة الإهانة التي خلفها مسعود في صدره،تحولت إلى إصرار رهيب على النضال من أجل عائلته وحمايتها من الضياع مهما كلفه الثمن.
تابع سيره بقوة رجل في ريعان شبابه،وٱنسابت من عينيه نظرة متحدية،قوية،مصممة على المضي في طريق الكفاح الطويل ،وفجأة..شعر بجسم صلب يصدمه بقوة في جانبه الأيسر ،ويرفعه فوقه ليرتطم رأسه بحاجز زجاجي ينكسر عند الإرتطام ليطير جسمه إلى الأعلى،ثم يسقط على الأرض متدحرجا بشدة،حاول الوقوف،لم يقدر، رأسه يسيل منه الدم الدافئ بغزارة،وجسده يؤلمه كثيرا،جال ببصره حوله فوجد كل شيء قد إصطبغ بلون أحمر شفاف،الناس الحمر يحيطون به من كل جانب،وخلفهم تقف سيارة أكثر إحمرارا،مكسورة الزجاج الأمامي,سار على أطرافه الأربعة ،وتشبث بأحد أرجل الملتفين حوله،وبدأ في الوقوف وهو يصيح في ألم:آآه ...عائلتي..آه لا..ستضيع..ستتشرد..لن أسمح بذلك..لن....
ثم سقط على الأرض غارقا في دمائه وسط ذهول الجميع،رأسه أصبح ثقيلا جدا ،والسواد المترتب عن إنطباق جفنيه على مقلتيه،أخذ يمتزج بالحمرة المنسابة على عينيه ويلفها من كل جانب ليمنع عنها الرؤية ،وقواه خائرة،وأصوات الملتفين حوله تخترق أذنيه في وقت واحد،متداخلة مع بعضها البعض ،مكررة كصدى صوت آت من فج عميق،مزعجة،غير مبال بها،ومغمغما بكلام غير مفهوم.
ـ إنه يهذي.
ـ سأطلب الإسعاف.
ـ لم يكن الذنب ذنبي لقد ظهر أمامي فجأة فلم أستطع تجنبه.
ـ غريب أمر هذا العجوز، إن قدرته على التحمل كبيرة جدا رغم إصابته البالغة.
ـ لقد كان يسير شاردا..أنا رأيته ومستعد لأن أشهد بذلك.
ـ ٱهتم بنفسك ..لم يطلب أحد منك الشهادة.
ـ أأكد لكم لم يكن الذنب ذنبي ومع ذلك فأنا مستعد لمصاريف العلاج ولأي تعويض يطلبه.
وأخذت الأصوات تخفت شيئا فشيئا،والكلمات تتداخل مع بعضها البعض لتصبح بدون معنى،وقبل أن يفقد الوعي تناهى إلى سمعه صوت سيارة الإسعاف آتيا من بعيد ،فأراح جسده على الأرض في هدوء فساد السكون....