الأحد، 17 مايو 2015

قصة قصيرة رجل بلا قيد بقلم رشيد شرشاف

قصة قصيرة رجل بلا قيد بقلم رشيد شرشاف
ذات ليلة باردة والناس نيام،و النوم مفارق عيني،و لا أحد في المنزل غيري،و السكون يلف المكان،والشوارع خالية من الناس،والسماء ملبدة بالغيوم،والقمر يطل في استحياء ـ مرة بعد مرة ـ من بين السحب ،و الأرض تدور دورتها جهة المشرق ،والفجر قريب،والشمس لا حظَّ لها في الظهور هذا اليوم،و أنا جالس على كرسي قرب المدفأة في يدي كتاب،و أنا أنظر في شرود إلى السطور المتراصة فوق بعضها البعض ،المكونة من كلمات صغيرة كالنمل،وأنا منقبض الصدر مشغول البال،اشتهـــيت أن أخرج إلى الشارع و أنا مرتدٍ قميصا خفيفا و سروالا قصيرا،و أصرخ بأعلى صوتي و أجري و أضحك،وأكسر مصابيح الإنارة ،و ألعن الناس كمجنون فقد عقله،تماما مثلما كنت أفعل وأنا طفل صغير،فتشدني أمي من أذني بشدة ـ دائما تشدني من نفس الأذن ـ حتى أصبحت أظن أن لي أذنا أطول من أخرى ،و تقول لي:
ـ هذا عمل شائن لا يليق بالتلميذ المهذب
و أصبحت مهذبا محروما من عنف الطفولة و حماقاتها
ـ الطفل المهذب لا يتصرف بحمق
أرتدي الملابس و أخرج تاركا مصابيح المنزل منارة و الباب مفتوحا
ـ الطفل المهذب يقفل الباب عند الخروج كي لا يسرق بيته لص
أنزل السلالم.تخترق جمجمتي ذكريات الشباب.
ـ أنت رجل طيب ،و مهذب، ولطيف ،و فريد، ومتميز، و تقدر المسؤولية، و تعاشر الناس بالمعروف، و تواجه الحياة بجلَد، لكنك لا تثير ا هتمامي
لسلالم مظلمة.أنزل ببطء.ببطء أكثر من اللازم
ـ أنت لا تساير العصر
أغني بصوت دافئ أعهده في
ـ أريد رجلا متحررا
أحاول أن أشوه صوتي.أفلح فتخرج الألحان مشوهة
ـ يجب أن تكسر القيود
أسمع حركة داخل بيت الجيران
ـ عن أي قيود تتحدثين؟
تزداد الجلبة داخل بيت الجيران،فأرفع صوتي بالغناء
ـ النظام، والحياة الهادئة ،والعيش بالمعروف، كل هذه قيود
يُفتح الباب.تطل جارتي في انزعاج فأختبئ.تلعن المزعج وتتوعده بالإتصال بالشرطة
ـ ما تريدينه هو الفساد بعينه
تصفق الباب،فأظهر من جديد و أنا أكتم ضحكة شريرة.أصعد وأدق بابها بعنف،ثم أفر هاربا وسط الشتائم والتهديدات.يتلقفني الشارع الخالي.أسير في خيلاء،وأحرك يدي في مرح.
ـ أنت وقح ولا تعرف كيف تعامل النساء.
أرى على مقربة مني أمام ورشة بناء كومة حجر.أجري نحوها كطفل صغير، وأملأ جيوبي بها.
ـ وأنت امرأة حمقاء مستهترة.
أرفع رأسي إلى السماء كمؤمن يناجي الله تعالى قبل طلوع الفجر.تنزل قطرة مطر على عيني ،وتنزل عبر الخد إلى الذقن.أشعر بالوحدة.أشعر بالغربة.أشعر بالضياع،ويلف جسمي برد قارص.أخفض رأسي قليلا،فتجتدب بصري أضواء أعمدة النور.أبتسم وآخذ من جيبي حجرا ،وأرميه صوب أحد المصابيح ،فينكسر وتتسع ابتسامتي.كم أنا بارع في التصويب!وأصوب نحو مصباح آخر فينكسر.حقا أنا بارع ،وتتالى الإنكسارات،ويعم الظلام شيئا فشيئا،فتلف النشوة جسدي.أصيح وأصرخ ملئ صوتي:
ـ أماه لماذا أنجبتني؟!
أسمع جلبة في بعض البيوت.لا أهرب.تضاء بعض مصابيح الغرف.لا أهرب.تطل بعض الوجوه.لا أهرب.أنظر إلى الكل في احتقار،وأرجمهم بما تبقى لي من حجر.يثورون ضدي.
ـ أماه أنقذيني!
أهرب .ترعد السماء،وترميني بحبات المطر
ـ أماه...دثريني!
أرتجف كعصفور صغير سقط من عشه على أرض ندية.
ـ كم أنا خائف !
أختبئ في مكان ما.
ـ بل مذعور
ملابسي مبللة عن آخرها.
ـ بل مرعوب
أظل مختبئا حتى تخمد ثورة السكان.يلفني السكون.أهدأ.ينتظم تنفسي بالتدريج.تنبعث من عيني شرارة،و يحرق القلبُ صدري كجدوة نار،و تنهمر الدموع ساخنة من عيني فأبكي بحرقة.
ـ أماه لقد أصبحت طريدا،غريبا،منبوذا،فأين هي دعواتك لي بالفلاح؟
ينتفض جسدي فجأة وتتوقف دموعي.أشعر بالدوار و الحمى.أخلع قميصي المبلل بالعرق والمطر،وألفه حول رأسي لأتداوى بالذي هو الداء.أنظر حولي في شموخ كفارس عربي قديم،ثم أجري بين الأزقة بأقصى ما أستطيع.أقف.مازلت أحس بالدوار.تخترق أسماعي موسيقى وضحكات آتية من حانة قريبة عاجة بالناس،فيزداد إحساسي بالدوار.أراقب المكان في ٱندهاش.لم أر هذا المكان من قبل قط!ترى هل هو أحد بيوت ألف ليلة وليلة أم ماذا؟
أراقب في فضول.أشم رائحة الحرية التي حدثتني عنها يوما إحدى النساء.أبتسم في سخرية.يخرج ثلاثة سكارى.رجلان وامرأة .الملامح غير واضحة.يتمايلون في مشيتهم من شدة السكر.غير قادرين على المشي بشكل طبيعي.أفكر :
ـ ماذا يحدث لو رآني أحدهم؟حتما سيعتقد أنني متسول حقير.
أفكر بصوت مسموع:
ـ إنهم سكارى لا يفقهون الآن شيئا،ربما اعتبروني أميرا عربيا،أو حاكما هنديا،والدليل العمامة التي على رأسي:قميصي المبلل الذي أستخدمه في وظيفة طبية.أرتاح لهذا الرأي وينتابني شعور بالزهو .يودع الرجلان المرأة ويمران بمحاذاتي دون أن يشعرا بي،وتتخذ المرأة طريقا آخر وهي تلوح لهما مودعة وتضحك في خلاعة.أتبعها .لا تشعر بوجودي.أحاول أن أتبين ملامحها.أنكشف،وتشعر بوجودي.تتوقف،وتستدير نحوي.أصدم بمعرفتها،فيغلي الدم فورا في عروقي .
تخاطبني في حياء يخالطه سكر وثقل باللسان:
ـ هذا أنت؟ كيف حالك؟
ثم في ٱرتباك واضح:
ـ ما...ماذا تفعل هنا؟
أتجاهل سؤالها و أقترب منها أكثر.تظهر ملامحي الغاضبة جليا مع انبلاجة الفجر،فتقلق وترجع خطوة للوراء.تسألني في خوف:
ـ ماذا بك؟ما..ماذا حدث لك؟
ذاكرتي غائبة بين صفحات الماضي.لا أجيبها.أقترب.أمسك بيدها،وألطمها على وجهها.تنظر إلي في دهشة .فتلطم جدار ذاكرتي أقوالها القديمة.
ـ أنت لا تساير العصر
ألطمها مرة ثانية فتند عنها آهة مكتومة.
ـ أفكارك رجعية.
ألطمها مرة أخرى .تسقط على الأرض.
ـ النظام والحياة الهادئة والعيش بالمعروف كل هذه قيود.
أنقض عليها ككلب مسعور.تستنجد.
ـ أماه ..لست مذنبا ،هي السبب فيما يحدث.
ألكمها .تصرخ بقوة.ألكمها بقوة.
ـ أماه لقد ضعت.ينتبه رواد الحانة والسكان.ألكمها بقوة أكثر.تفقد الوعي.أتابع لكمها.ينقض علي الناس.
ـ أيها الأوغاد ،دعوني أمارس حريتي ولو مرة واحدة في حياتي.
ألكم الكل .يلكمونني من جميع الجهات.أصيح و أبكي .. يتابعون ضربي.أسقط .يكفون عن ضربي .فألعن كل الناس....

ليست هناك تعليقات: