الأحد، 3 مايو 2015

قصة قصيرة :البكماء بقلم:رشيد شرشاف


ليل مرصع بالنجوم يتوسطه قمر،يلف القرية بالسكينة والهدوء.
تخترقه في لحظة من اللحظات صرخة امرأة متوجعة.تتنبه آذان القروين و القرويات،
فتتبع مصدر الصرخة في فضول، وتتحرك شفاههم مخبرة بمكانها، و تهتز رؤوسهم بعلامة الإدراك.

تتنقل بعدها بعض النساء إلى أحد الأكواخ حاملة الماء الدافئ و لفافات الثوب النظيفة. يدخلن ويوصدن الباب.
يمر الوقت بطيئا، و مع إنبلاجة الفجر، تخترق الأجواء صرخة طفلة مستقبلة للحياة.
تخرج النساء متعبات، فرحات، مهنئات رب الدار بالمولود الجديد، و تخبر أهل القرية بجماله المنقطع النظير.

عند اختراق أول شعاع شمس لتربة القرية الندية، يتوافد الأهالي على البيت مهنئين .
يدفعهم الفضول لرؤية هذا المولود الجميل فلا يتخلف منهم أحد.يصيبهم الذهول فيجزمون ألا صفاء مثل عينيه،
ويؤكدون ألا نضارة مثل وجهه.تنتفخ أوداج الأب و تفيض عيناه بالإعتزاز و الفخر،
فينطق لسانه دون تفكير باسم صفاء، و يلتفت إليهم و يقول: لقد اخترت لابنتي من الأسماء اسم صفاء.
ينال الاسم الاستحسان من طرف الجميع، وتنهش الغيرة بعض القلوب، لكن العيون تظل مبتسمة،
و الأفواه تلوك التهاني و تقذفها بغير حساب.

تمر الأيام والشهور و السنين ، وصفاء الجميلة تزداد جمالا يوما بعد يوم،
و تفيض نضارة ، تحسدها عليها القرويات الغيورات، الخبيثات ، النافثات للحقد بغير حساب.
تكبر صفاء و تكبر لوثة القلب في نفوسهن، و تكبر الحقيقة الخفية، و تتضخم لتنفجر في وجه الجميع.

صفاء البنت الجميلة بكمــاء، جمالها أخرس لا يطرب الآذان .
ترتاح القرويات، و تهنأ نفوسهن، و يحل النبأ كالصاعقة على أهلها.
يثور الأب،ويلعن أم صفاء، ويرميها بأقبح الألفاظ، و يضربها ضربا مبرحا؛
ليضع الحقيقة أمام عيني الابنة في أعرى صورها. تتألم و تحزن، فتذبل العينان و يصفر الوجه.

ينتفض قلب الأم و يدق ناقوس الخطر، فتأخذ ابنتها إلى أضرحة الأولياء الصالحين ، وإلى الحكماء ولكن دون جدوى.
تتقافز السنوات معلنة عسر الشفاء، و تتبدد الآمال، و تخفت نيران الحقد في نفوس القرويات ،
و تشتعل نيران الحزن في قلب صفاء، فتتفجر إبداعا على الورق: تتحول رسوما جميلة،
آسرة للنفس ، مشجية لها: ترسم ألسنة تحتضن الكلمات ،و عيونا تبكي دماء، ووجوها جامدة مكسورة أجزاء.
تفعل ذلك في كل لوحاتها وسط إطار طبيعي فطري خلاب.
تستيقظ الغيرة الكامنة بأفئدة القرويات، فينعتنها بالجنون والسحر،
و يحرضن الأهالي على منعها من الرسم: يردن إسكات صوتها إلى الأبد،
يردن إقبار جمالها الفتان، يردن قطع خيط الأمل الواهي بعنف وضيع،يردن قطع صلتها بالحياة.

لا ترضخ لمشيئتهن. تثور ، فتزداد لوحاتها شجنا و غزارة، لتتخذ الطبيعة لونا حالكا كزنجي أسير ودع الحرية إلى الأبد،
وتتكسر الحروف على الألسنة ، ووتتلظى بالنار، وتنبعج الوجوه و تتمطط ، فيغيب الشكل ،
وتتجمد التعابير لتصبح ممسوخة،فيستشيط الأهالي غضبا،ويهاجمون الكوخ،
وينتشلون صفاء من بين أدرعة والديها المتشبثة بها خوفا عليها، فييكبلونها ككومة قش يوم الحصاد،
ويرمونها أرضا،ويأتون بلوحاتها ، ويشعلون النار فيها، فتصعق صفاء و تصدم ، فتصيح فيهم بأعلى صوتها و تلعنهم،
وترثي حالها باكية وسط دهشتهم، دون أن تشعر أنها بدأت تتكلم فعلا،
تتكلم بلسان احتضن الكلمات سنينا طوالا ، فما عاد ممكنا إسكاته. 


                                                                                          بقلم:رشيد شرشاف

ليست هناك تعليقات: