الجمعة، 15 مايو 2015

قصة قصيرة:رجل لفظته الدنيا..بقلم:رشيد شرشاف


قصة قصيرة:رجل لفظته الدنيا..بقلم:رشيد شرشاف
"هو" إنسان خجول وجبان،يحيا وحيدا بين الناس،لا يكلمهم ،ولا يصادقهم،ولا يحب أن يعرف أخبارهم،أو يسمع شيئا عنهم..يعيش منسيا في غرفة حقيرة،مع بضع كتب ،وبضع أحلام يتيمة ،لم تأذن الحياة لها أن تتحقق،لتشعره بكيانه ،وبوجوده الضال عنه،منذ لفظته الدنيا من رحمها،وتركته تائها فوق الأرض
"هو"كان أقدر الناس على معرفة معنى الضياع..ضياع الأحلام ،وضياع الأجساد،وكان يستطيع أن يتكلم عنه بطلاقة،لساعات طوال،دون أن يتعب أو..يخجل،فقط لأنه يدركه منذ أن وعى معنى الحياة،ولأن كلامه عنه ،قد أصبح مألوفا لديه كإبتسامته الخجولة،أو كسلامه السريع على أصدقائه المقربين،وٱبتعاده عنهم بسرعة نحو غرفته،لينزوي فيها،كي يعيد بناء أحلامه وأمانيه من جديد.
مازال يذكر شعاره القديم الذي كان يطرب ويفرح له كثيرا وهو في سن المراهقة ،عندما كان يهتف به في هيام،كلما إختلى بنفسه،فيقف وقفة جليلة أمام المرآة و يصيح..أنا أحيا إذن أنا غير موجود.ثم ينفجر ضاحكا.
لم تكن الحياة بالنسبة إليه ،سوى مقبرة عظيمة ،مزينة بأجمل الزخارف ،تحمل داخلها ،أحلام الإنسان الساذجة،وبقايا أفكاره التي تثقل كاهل الأرض وكاهله.
"هو"يئن من أجل البشرية ويعطف عليها،هذا ما نبض به قلبه ذات يوم في ألم."هو"يئن عندما يرى تسابق الناس ،وتقاتلهم على حفن التراب،والسوائل السود،فيتمنى لو كانت الأرض كلها ملكه ،ليقسمها بينهم بالتساوي ،فلا يحذف من القسمة إلا غرفته الحقيرة،التي لا يحب أن يشاركه فيها أحد ،أو يأخذها منه،ويحب لو أخذ فوق نصيبه هذا،عملا يسد به رمق العيش..لا يهمه نوع العمل ،أو طبيعته،أو مشاقه،ف"هو"وإن كان حاصلا على شهادة جامعية ف"هو"ـ كمثل باقي العاطلين عن العمل ـ يحتاج إليه ولا يسعه إلا القبول والطاعة.
"هو" يحز في نفسه كثيرا ،أن يرى من دونه أقل شهادة،ينال أرفع المناصب سوى لأنه يعرف فلان،أو دفع مقدار كذا لفلان،أو توسط له أحد عند فلان٬ويبقى هو ومن مثله في دوامة واحدة،لا يخرجون منها إلا إلى قبر ،أو سجن، أو مارستان.والغريب في الأمر أنه وحزب العاطلين ـ كما يحب أن ينعتهم كلما أراد أن يداعب نفسه ـ كلهم أو أغلبهم من الذكور،فالإناث عنده يشكلن الأيادي العاملة ،المطلوبة في هذا القرن ،وأما أيادي الذكور فغير مرغوب فيها.
"هو"يكره النساء ،و يمقتهن ،ويعتبرهن السبب في بطالته،وفقره،وتسكعه،ويعدهن من أكبر شرور هذا العالم،ويعتقد أن خروجهن إلى العمل ما هو إلا وسيلة لتغطية هدفهن الأول ،الذي لا يجدن حرجا في البوح به ،وهو إرضاء شهواتهن إما بالزواج أو بغيره،فكل حركاتهن أكانت كلاما،أو صمتا،أوضحكا،أو بكاء،أو حزنا،أو فرحا،أو..نضالا من أجل الحرية كما يسمينه،ما هي إلا وسيلة للفت الإنتباه إليهن،لإطفاء نار الشهوة التي ترقص في صدورهن،فالعمل في حد ذاته لا يروقهن ،لأنه إذا طلب منهن ـ مثلا ـ العمل في أماكن لا يشغلهن إلا النساء لرفضن ذلك ،وٱنصرفن عنه، وفضلن إرضاء شهواتهن.
"هو" قرر أن يضيف إلى قائمة شعاراته، شعارا جديدا يقول أنه وراء كل رجل فقير إمرأة،لكنه عاد وفصله عن القائمة ،لسبب بسيط وهو أنه لا يحب أن يذكر إسم المرأة عنده بأي وجه كان ،وهكذا قرر أن ينتشل نفسه من براثن الفقر رغم أنوف الجميع،وكان مفتاح غناه الذي رأى فيه خلاصه ،وهداه إليه عقله هو التجارة.
حمل ذات يوم كتبه و ملابسه المهترئة إلى حيث يتجمع الباعة المتجولون،فأخذ مكانه بينهم ،وعرض بضاعته للبيع..ظل اليوم كله تحت الشمس المحرقة ،تلهب وجهه فتجعله أسودا كالفحم،يمر الزبائن مرور الكرام عليه ولا من مشتري،وفجأة وبدون سابق إنذار،تنقض على الباعة مجموعة رجال من الشرطة تخرج من سيارة أمن كبيرة،أخذت ملابسه ورمته بكتبه،وتابعت طريقها لإنتشال بقية الصيد..لم ينزعج من تصرفهم هذا ،فهو يؤمن إيمانا قاطعا ،بأن الشعب في خدمة الشرطة، ولكن الذي ضايقه هو إحتقارها لكتبه التي كان يعتز بها كثيرا وإنصرافها عنها، فهو يعلم أن ملابسه المهترئة عديمة القيمة ولا تستحق أن تعرض للبيع لكن كتبه التي صرف حياته كلها في جمعها وقراءتها والإعتناء بها لا يجب أن تحتقر هكذا،فلو أن الشرطة أخذتها منه وتركت له ملابسه أو أخذتها هي أيضا،لكان الأمر أهون عنده.
"هو"بات يعلم اللحظة لم بقي فقيرا..
"هو"بات يؤمن أنه يحيا في زمن لا يؤمن بأمثاله،ولهذا سيظل وحيدا بين الناس و..فقيرا،سيعيش منسيا في غرفة حقيرة مع بضع كتب وبضع أحلام يتيمة ،لم تأذن لها الحياة أن تتحقق ،لتشعره بكيانه و بوجوده الضال عنه، منذ لفظته الدنيا من رحمها ،وتركته تائها فوق الأرض...