الأربعاء، 3 يونيو 2015

قصة قصيرة ذكريات زائر الغرف...بقلم:رشيد شرشاف

بسم الله الرحمن الرحيم
قصة قصيرة ذكريات زائر الغرف...بقلم:رشيد شرشاف
زاز..زوز..زيز.تشبثت بالحائط وأخذت أنظرحولي لعلي ألتقي بأحد معارفي،لكن الغرفة كانت خالية منهم،ولم يكن بها إلا بعض الحشرات التي لا تنتمي إلى جنسي،ولا ترتبط معه بعلاقات طيبة رغم المعاهدات و الإتفاقيات التي حررناها معا،بخصوص الحقوق العامة والحريات الخاصة التي يجب أن تتمتع بها كل حشرة طائرة في الفضاء أو سائرة على الأرض.
كانت النافذة التي دخلت منها قبل قليل مازالت مفتوحة ،والهواء الدافئ يخترقها بليونة ليزور أرجاء الغرفة في خيلاء وهو محمل بأصداء الصمت الرهيب الذي يخفي وراءه مؤامرات سرية ،تنسجها بعض العناكب الشريرة،الموزعة في أرجاء الغرفة،ثم يفارقها ليعود إليها من جديد وهو محمل بأخبار قطط تتصارع أمام سلة قمامة توجد تحت النافذة مباشرة.
أحسست بالغيظ وأنا أتذكر هذه القطط المشاكسة وما أضاعته علي من طعام لذيذ سال له لعابي عندما كنت ملتفا حوله أنا وبعض أصدقائي الآتين من الحي المجاور في رحلة سياحية جميلة ،كانت ستدوم أياما طوالا لولا وصول هذه القطط و ٱنفضاض شملنا المجتمع.
ضايقني هذا كثيرا ،فأخذت أمسح جناحي برجلي الخلفيتين بطريقة لاإرادية وأنا محول بصري عن باقي الحشرات المنتشرة في الغرفة،ومستعد لأي محاولة غدر مباغثة قد تأتي من أحد العناكب المكرة.
لم أستطع أن أقاوم الخوف والوحدة الذان بدآ يسيطران علي ويقلقاني ،ولذلك فقد أخذت أشغل نفسي بالنظر إلى ما حولي وأقارنه بما شاهدته في رحلاتي المتعددة بين المنازل والغرف.
كانت الغرفة ضيقة وذات أثاث قليل لا يحتوي إلا على بضع كراسي ،موزعة هنا و هناك بدون ٱنتظام ،وخزانة كتب قديمة وطاولة صغيرة موجودة أمام النافذة، ظهر على سطحها الأمامي بضع أوراق مبعثرة ،وفنجان قهوة ممتلئ نصفه ،و أما نصفها الخلفي فلم أتبينه جيدا لأنه كان يقع في زاوية مظلمة ،و أما الجدران فقد كانت حالكة اللون ،وتنبعث منها رطوبة مقرفة ،والمكان كله يسيطر عليه سكون ممل بعث في أطرافي الخمول والكسل وأثقل رأسي بتخدير لذيذ.
تثاءبت وأغمضت عيني للحظة قصيرة فرأيت فيما يرى النائم الغرفة قد تبددت وتغيرت تماما ،وحل مكانها ضباب رمادي غريب ،أخذ يجتدبني داخله ويلفني من كل جانب بواسطة ذراته الإهليليجية ،التي أخذت تتمدد و تتمدد لتحصر جسمي الصغير بينها وتضغط عليه بشدة إلى أن تقلص وٱنكمش ،وأصبح نقطة فراغ صغيرة لم تلبث أن كبرت وٱنتفخت وأعادت جسمي إلى طبيعته الأولى بعد أن إمتصت كل الضباب المحيط بها ،وكشفت عن جدران الغرفة وأثاثها وحشراتها وعناكبها الذين أصبحو مكونين من فقاعات إسفنجية شفافة بعضها متراص فوق بعضه يكون أشكالا هندسية مختلفة :جدران،كراسي،كتب ونافذة،وبعضها الآخر طائر وسط الغرفة وهو يجسد الحشرات والعناكب.
ثرت و ٱنتفضت وأخذت ألطم الجدار الإسفنجي بأرجلي الستة، لكنه مال بي ،وكادت الغرفة أن تسقط على رأسي، لولا أن إنتصبت فجأة، وتصلبت، وصوبت نحوي بعض فقاقيعها، التي تحولت في لحظة واحدة إلى أيادي قوية، أطبقت على عنقي بشدة، وكادت أن تخنقه، كأنها تستنكر إعتدائي عليها ،ثم تحولت إلى سهام حادة ٱنغرزت في جسمي، وأخذت تمتص ماءه ،و تحوله إلى كتلة عضوية جافة و ساكنة ،فأظلمت الدنيا أمام عيني وتهت في دوامة من ضباب.
بعد وقت قليل أو كثير لا أعرف..إستعدت وعيي ،فوجدتني متشبثا بجدار الغرفة أتصبب عرقا ،ووزني قد تضاعف مئات المرات، فلم أعد قادرا على الحراك.أدرت رأسي حولي بصعوبة فوجدت الغرفة كما رأيتها أول مرة :الجدران الإسمنتية الحالكة اللون،الكراسي الموزعة بدون ٱنتظام ،الطاولة التي أمام النافذة ،خزانة الكتب ،الحشرات والعناكب .تثاءبت في خمول ومسحت عيناي برجلي الأماميتين كي أنفض عنهما النعاس ،وأخذت أنظر إلى العناكب وهي تجهز الفخاخ وتخفيها في حركات نشيطة ،وتصورت نفسي واقعا في إحداها ـ لا حول لي ولا قوة ـ والعنكبوت تمتص دمي،فٱتسعت عيناي على آخرهما وأصبت بالذعر.
زيز..زوز..زاز طرت في أرجاء الغرفة كالمجنون عندما خطر لي هذا التصور ،فأخذت أخترق ذرات الهواء في نهم عجيب،وأحاول أن أجد لي مكانا بينها أختبئ فيه كي أبتعد عن تخيلاتي لكن الخوف ظل يلازمني ،وصورة مقتلي على يد العنكبوت أخذت تكبر و تكبر حتى ٱجتاحت كل مخيلتي ،فبدت لي نهايتي محتومة لا مفر منها ،ووددت لو ينقضي هذا الأمر بسرعة فينتهي عذابي ،وبدأت أفكر فعلا في الإستسلام لولا أن أحسست بالدفئ يسري في عضلاتي المتخشبة ،ويهب علي من أحد الجوانب.ٱنتابني فرح عارم أنساني خوفي وأحل محله بعض الطمأنينة و الأمان ،وغمرتني نشوة لذيذة شحنتني بالثقة في نفسي و في قدراتي الدفاعية على مواجهة الأعداء ،فتأهبت للمجابهة و ٱستعددت لها بكل خلجاتي،ولكي لا يبقى في نفسي أي مجال للخوف ،أخذت أرفرف بجناحي بسرعة و أنا أدور في حلقات أفقية كي أزيد من نشوة الدفئ والفرح الذان ٱنتاباني ،وكنت أثناء ذلك أجيل الطرف حولي باحثا عن مصدر الهواء الدافئ الذي هب علي قبل قليل وزاد من إنتعاشي،وكنت أنسج لصاحبه في مخيلتي صورا حالمة ،و أنوي أن أعترف له بفضله علي وبجميله حالما أراه ،لكن توقعاتي خابت كلها عندما علمت المصدر ،فأظلمت الدنيا أمام عيني و أدركت أنها النهاية.
زاز..زوز..زيز هبطت هبوطا إضطراريا على الطاولة التي كانت بالقرب مني و بدأت أنتظر مصيري المحتوم و في لحظة واحدة أخذت أسترجع شريط مراقبتي للغرفة و أعيد تكراره مرات و مرات وأنا أراقب ذلك الكائن البشري الجالس أمامي وأبحث له عن مكان في ذاكرتي لكنني لم أجده بها . كان جالسا في زاوية مظلمة على كرسي يوجد وراء الطاولة وعيناه شاخصتان نحو السماء تنظران إلى القمر المنير في حنية عجيبة ،ومن حين إلى حين كان يزفر زفرة طويلة تتبعها قطرات دمع فارة تتراقص أولا فوق أهدابه ثم تسيل بين تجاعيد وجهه النحيف المائل إلى الزرقة لتسقط على سطح الطاولة وترشني بمائها المالح.نظرت إليه بإشفاق لم أظن يوما أنني سأوليه لأحد من جنسه وذلك لأن إخوانه زرعوا في دمي الحقد منذ الصغر وسقوه بتحرشاتهم بي و بنظرات الإحتقار لي كلما رأوني ،فلم يكن مني إلا أن بادلتهم بنفس مشاعرهم وعاملتهم بنفس معاملتهم ،وقد إزدادت كراهيتي لهم كثيرا حينما علمت أنهم قتلوا إخواني بالبلايين من دون أي سبب سوى لأنهم أرادوا أن يعيشوا مثلهم ويحيوا كما يحيا كل الخلق ورغم أن إعتداءهم هذا مخالف لمبادئ حقوق الكائنات الذي ينص في باب الحريات الطبيعية بأن لكل كائن حريته في أن يغرف حقه من الأمكنة التي يأخذ منها الجميع لأنها ملك للكل وليست حكرا على أحد فإنهم يتغاضون عن هذا القانون و يحولون لفظ حقوق الكائنات إلى حقوق الإنسان كي يبرروا إعتداءهم علينا ويسلوا منا براءتهم .أذكر مرة لما قتل والداي على يدي أحد البشر بدعوى إزعاجهما له و مضايقته قالت لي جدتي :يا حفيدي اليوم قتل والداك و غدا تقتل أنت فأشهر سلاحك عليهم و ٱقتل منهم ما شئت .ثم ماتت، لم أفهم وقتها الحكمة المتوخاة من مطلبها هذا و لا كيفية قضاء كائن صغير مثلي على كائن عملاق مثل الإنسان لكنني عرفت ذلك فيما بعد و أتقنت اللعبة وعندها علمت لم طلبت مني جدتي ذلك و عرفت معنى الحرية التي يطالب بها الإنسان ويريد أن يعممها على باقي الخلق.لم أدر ما الذي حدث لي حتى إستثنيت هذا الكائن البشري من وصية جدتي و عطفت عليه ورأفت به ..لكن هذا ما حدث.
كنت أشعر بوجود قوة خفية تسري بيني و بينه وتؤثر على مشاعري و تحاول أن تجدبني إليه و تصهرني في ذاته لتكون منا جسما واحدا متكاملا و موحدا.راقني هذا الإحساس كثيرا وتملك مشاعري فبدأت أنسج له في مخيلتي صورة خيالية تجمع صفاتي بصفاته صورة لجسد بحجم الإنسان له جناحان شفافان كبيران وأربعة أطراف قوية إثنان مرتبطان بأعلى الصدر وإثنان آخران مرتبطان بأسفل البطن.. نظرت إليه في هيام نظرة المنقذ من سجن منيع وتمنيت لو تتوقف دموعه عن السيلان و تزول عنه آلامه و يعود إليه نشاطه فيضمني إليه لنشكل ذاتا واحدة ونطير معا في الفضاء ونهجر آلامنا التي تضطرم في صدرينا وننسى العذاب الذي نحس به لكن هذا تبخر في لحظة واحدة وتحول إلى حقد كبير عندما رأيت يده تهوي نحوي بسرعة كأنها تريد سحقي فتكومت حول نفسي و ٱنتظرت نهايتي.
زيز..زوز..زاز لم أستطع أن أظل مكتوف الجناحين من دون أن أفعل أي شيء ولذلك فقد إرتفعت قليلا عن الطاولة وحاولت أن أتجنب يده بأقصى ما يمكن رغم ما كنت أحس به من رعب شديد ،لكن محاولتي هذه لم يكتب لها أن تكتمل لأنني عدلت عنها في آخر لحظة لما رأيته من عجب ،فهو لم يوجه يده نحوي بل وجهها إلى ورقة كانت بالقرب مني وأخذ يخط عليها بضع جمل مترابطة مثنى مثنى ومتقايسة .كان يكتب بإنفعال واضح .يداه ترتعدان ووجهه متصلب كأنه يكابد معاناة شديدة ،وعيناه تبرقان ويتساقط منهما الدمع الغزير.ٱغتظت وغضبت ووأدت في صدري كل ذرة رحمة كنت أحسها تجاهه ،ووددت لو أن لي القدرة الكافية كي أحطم رأسه و أنتهي من مضايقاته لي ،وتمنيت لو أني ما دخلت الغرفة قط فمنذ ولوجي إليها وأنا في هلع ورعب كلما إطمأننت قليلا إلا ويحدث ما يعكر مزاجي ويزيد رعبي فأتصور أنني ملاق حتفي
حاولت أن أهدئ نفسي وأمتص غضبي وأتغاضى عما حدث لي لكن محاولاتي كلها باءت بالفشل فٱزددت غضبا وقررت أن أرد له الصاع صاعين وأنتقم منه وأتفنن في إهانته والإستهزاء به والسخرية منه وذلك بأن أطير بينه وبين ما خطه لأستفزه و أشغله عنه لكنه لم يأبه بي ولم يضع لي أي إعتبار فشعرت بالإحتقار.توقفت وأخذت أنظر إليه في إرتباك وإلى ما خطه على الورقة في فضول .قرأت المخطوط بصوت منخفض أقرب إلى الهمس:
أضاءت ظلام الأفق ألـواح دمـعتي وصمَّت فضاءَ الأرض أصداء صرختي
سوار صبري قد شقه الوهن والضنى وسادت رياحَ الصـدر أوجاع حـسرتي
وقلبي تداعى و الأسى فوق حمــله وكل المـنى قد حطـمت تحت لوعـتي
مللت الضنى أصل الأذى في نوازلي فـزاد الأذى عما ملـلـت في كـربتي
ظللت شاردا لبعض الوقت وأنا أقلب ما قرأته من جميع جوانبه وأحاول أن أستنبط منه ما ٱستغلق علي فهمه وفي لحظة أحسست بإرتياح عجيب يسري داخلي فنقلت بصري إلى وجهه فوجدته ينظر إلي و قد ظهرت عليه دلائل البِشر والفرح ،وعيناه أصبحتا هادئتان وشفتاه إرتسمت عليهما إبتسامة غريبة .إحترت وٱندهشت و..فجأة ومن دون أي مقدمات تغير كل ذلك وٱتسعت عيناه قليلا فوقف نصف وقفة وهو يضع يده على صدره ويصرخ في ألم كأنه يعاني من حرقة ما أو يحس بٱختناق ،ثم سقط على الأرض بلا حراك ،وخيل إلي آنذاك بأن نورا هادئا قد إنبعث من جسده وٱنطلق نحو السماء .أخذت أدور فوق جثمانه في حيرة وأنا أحس نحوه بالعطف و الشفقة ،وبعد قليل سمعت طرقات عنيفة على الباب وقبل أن يكسر كنت قد غادرت الغرفة.
تمت بحمد الله في يوم:20.06.1996
تم بحمد الله