الجمعة، 9 أكتوبر 2015

قصة قصيرة: المهندس بهلول بقلم:رشيد شرشاف

كانوا ينادونه بالمهندس بهلول تجده في كل صباح مع أول شعاع شمس أول المستيقظين ،يجري بفرح جنوني حول الحديقة العامة، يتدحرج كالأطفال على الأعشاب الندية إلى أن تبتلّ ملابسه المهترئة و لحيته الطويلة.لا يأبه بتتبع المارة له و لا باشمئزازهم و خوفهم من تصرفاته الغريبة.لا يهدأ و لا يكف عن الإبتسام،و حين يمر أول فوج للأطفال متوجها إلى المدارس تتسع إبتسامته و تبرق عيناه بنظرة غريبة. يجلس على أول كرسي. يتابعهم فردا فردا. يبادلونه الإبتسام فهم يعرفونه جيدا و يحبونه أيضا. بين الفينة والأخرى يجالسونه ويحكون له عن أخبارهم و أحلامهم الصغيرة. ينظر إليهم بسعادة لكنه يظل صامتا و كلما حاول فتح فمه يسيل اللعاب بغزارة من بين شفتيه فينفجر الجمع بالضحك.يطرق برأسه إلى الأرض خجلا. يرسم على التراب صورة طفلين صغيرين يلعبان قرب نهر رقراق، و أشجار وارفة، وفراشات تلثم الأزهار و ترقص جذلة.يعجب الأطفال برسمه فيصيحون بفرح. يودعونه و يتوجهون إلى مدارسهم. يتوقف عن الرسم. يرفع عينيه إلى السماء و ينظر بشرود.لا جليس يؤنسه و لا ونيس. يشعر بالوحدة والضياع. يغادر الحديقة. يخترق الأزقة. يبحث عن لقمة غذاء بين القمامة يطفئ بها جوعه. يأكل بتلذذ ويتابع طريقه.
أهل البلدة يحفظون حكايته عن ظهر قلب. يشفقون عليه و يتجنبون إغضابه خاصة بعدما شاهدوه يكسر بيديه القويتين كَيَدِ غوريلا، سيارة سيدة تنهر أبناءها بغلظة و تعاملهم أسوأ معاملة، لم يستطع أحد أن ينقذها إلى أن أتت الشرطة و كبلته بمشقة. إحتجزته شهورا بمستشفى المجانين ثم أُطلق سراحه بعد ذلك كحمل وديع.
يسير بهدوء إلى أقرب سور مدرسة.يأخذ طبشورا ملونا. يرسم أسراره على الحائط الطويل:بيت صغير. إمرأة بعمر الزهور تراقص شابا يافعا. طفلان يفتحان الباب لأبيهما الحامل لشنطة سفر. صراع دموي بين الرجلين. إصابات بليغة بالرأس. ضباب أسود يلف المكان. لا شمس تشرق بعد ذلك، ولا أزهار تتفتح، و لا طيور تغرد. جسد يهيم في الطرقات بلا مأوى و لا أنيس. لا فرق بين شتاء و خريف ولا بين صيف و ربيع.وحدها إبتسامة الأطفال تنير ظلمة قلبه السحيقة وتذكره بماضيه البعيد.
مع غروب الشمس يتجمهر الأطفال حول رسوماته. يرقصون و يضحكون. يتأوه بطريقة مضحكة. يودعونه على أمل اللقاء. يعود إلى ركنه المفضل تحت أحد الأشجار. يبكي بحرقة و يصيح صيحة تقشعرّ لها الأبدان. يَظَلُّ على هذا الليل كله.لا يُعْرَفُ متى ينام....